Friday, 13 May 2011

الأرثوذكـس






لم تفهم مريم وهى طفلة لماذا كان عليها أن تذهب إلى مدرسة الأحد يوم الجمعة، وأبداً لم تسأل لماذا لا تذهب إلى مدرسة الأحد يوم الأحد، وتذهب إلى النادى منذ صباح الجمعة مع باقى أصدقائها.
ولكنها فهمت حين كبرت أن مدرسة الكنيسة كانت فى الأصل يوم الأحد عندما كانت إجازة المدارس جمعة وأحد فى زمن ماما وبابا.
كانت مريم تلميذة فى مدرسة الراهبات، وكانت المفضلة عند المدرسين لهدوئها وشديد أدبها، مع التزامها بكل التعاليم والتعليمات، كانت بداخلها الكثير من التساؤلات التى طالما أخفتها، وفضلت عدم البوح بها خشية أن يقال عنها إنها خارجة عن الخط المرسوم لها.
لم تفهم التلميذة النجيبة لماذا تترك الفصل لتحضر حصة الدين المسيحى رغم أن المدرسة مدرسة راهبات، ولم تفهم لماذا لا ترد بالسلام عليكم ورحمة الله كزميلاتها، رغم أنها وجدت هذا الرد جميلاً وبه معانى ودعاءً مطلوباً، فما أجمل رحمة الله كما قال لها أبونا.
لم تفهم لماذا لم تكن تدعى عند أعز أصدقائها فى رمضان، ولماذا كانت زميلاتها تتحاشين أخذ قطعة من ساندوتشاتها إذا كان به لحم، فكلما كبرت زاد فهمها لمعنى كلمة أقلية وإن كانت لم تشعر بأنها ليست من نسيج مجتمعها، فهى مصرية ملتزمة وتعرف ربها، تعريفها لنفسها هو تعريف كل صديقاتها مسلمات كن أو مسيحيات لأنفسهن.
وفى البيت كانت مريم دائماً تؤدى المطلوب منها دون مناقشة ، والحقيقة أنها لم تجد أسباباً كثيرة للمناقشة، فقد تربت على  القبول وفى الوقت ذاته لم تجد فى طلبات والديها منها مغالاة، فهم عائلة مسيحية ملتزمة فى كل شئ ديناً ودنيا، فهم عائلة مترابطة، وأحد أهم روابطهم قربهم من الكنيسة وتعاليمها دون حاجة إلى التشدق بذلك باستمرار، ودون حاجة لدعوة الغير للالتزام، فقد تربت على عمل ما هو صحيح مع عدم التدخل فى شئون الآخرين حولها حتى وإن فعلوا ما يبدو لها خطأ، وقد ربتها عائلتها وكنيستها حقاً على عقيدة التسامح والغفران والقبول.
وكانت مصدر فخر للعائلة حين نجحت فى دخول كلية الصيدلة لتكمل مشوار الأب والذى بدأه الجد، وهكذا أصبحت مريم ضمان استمرار رخصة الصيدلية التى ورثها والدها عن جدها طبقاً للقانون دون حاجة للتحايل عليه.
 وأقبلت على الجامعة بروح عالية وكالعادة بالتزامها المعهود، وتوسع عالمها وكبر من مدرسة الراهبات وتلميذاتها إلى أقران وأصدقاء من خلفيات مختلفة.
وأحست فى بعض الأحيان بعدم ارتياح البعض للصليب المعلق على صدرها، وإن كانت الأغلبية تعاملت دون قيود.
وفى السيكشن تعرفت على مروان، شاب من وسط مماثل تماماً لوسطها، ملتزم ومهذب وذو شخصية مكتملة فى نظرها.
وأصبح الاثنان رفيقى الدراسة وأصدقاء مقربين، علاقتهما مهذبة وملتزمة وبها كثير من الاحترام.
وكما هو منتظر فى سنهما تطورت العلاقة بينهما إلى مشاعر رومانسية، فأحس كلاهما برباط قوى يربط بين قلبيهما دون أن يصرح أحد منهما بمشاعره تجاه الآخر.
ودون أن يشعرا تواصلت قلوبهما، فأحس كل طرف بما يكنه له الآخر من مشاعر زادت على مجرد مشاعر الأصدقاء.
وحان وقت التخرج، وكأن مروان أبى أن يتخرج دون أن يصارحها بما يجيش به قلبه، فطلب من مريم أن تصغى له، ودون تنميق لكلامه أعلن لها عن حبه وأنها الفتاة التى يتمنى أن يكمل معها مسيرة عمره، ولم تفاجأ مريم بما قاله، فهى تشعر مثل شعوره تماماً، وأدركت أن حاسة الاستشعار لديها قد أصابت حين شعرت بنبض قلبه يحبها.
عند هذه اللحظة توقفت مريم، وتصورت جمال الحياة مع مروان ومابينهما من تفاهم وتناغم، وكيف أنه فتى أحلامها ومنتهى آمالها، فابتسمت ابتسامة واسعة، وفى الوقت ذاته تضاءلت هذه الابتسامة وهى تحاول أن تفكر، أين سيصلى أبناؤهما؟ هل فى الكنيسة أم فى المسجد؟؟ وكيف لهذا الرباط أن يعيش وهو مرفوض من كلتا الديانتين؟!!
وكيف ستشرح لأسرتها الموقف، وكيف سيشرح هو لأسرته أنه يريد الزواج من فتاة ذات دين مختلف عن دينه الإسلامى، اختفت الابتسامة من على وجهها نهائياً وهى تتصور رد الفعل من أهلها، وأيضاً أبونا وهو يحاول إعادتها إلى صحيح دينها وعقيدتها.
نظرت مريم لمروان فى عينيه وقالت له: أنا أيضاً أحبك، ولكن هذا هو أقصى ما يمكن أن نصل إليه. نعم ..فحبنا محكوم عليه بالنهاية منذ هذه اللحظة، لأن ما سنضحى به أنا وأنت أكبر بكثير من أن نحتمله.
الله اختار لنا أن نحب بعضنا دون أن يكتب لنا أن نكون معاً، ولعل تقارب شخصياتهما هو الذى جعل مروان يقبل منطقها، ولا يحاول الإصرار فى إقناعها ولا يهدد بمحاولة الانتحار إذا لم تكن مريم له.
ومرت الأيام، ومريم تعمل فى شركة الأدوية الأمريكية صباحاً وتساعد والدها فى الصيدلية مساءً.
توافد عليها الكثير من الخطاب ولكن بلا طائل، فكانت ترفضهم تباعاً حتى فقدت أمها الأمل وشغلت نفسها فى زيجات أولادها الآخرين.
وصل مارك من أمريكا ليصبح رئيسها الجديد فى الشركة، شاب أمريكى، وسيم، متقد الذكاء، الكل يجزم بأنه ذو مستقبل باهر وواعد، ومن أول نظرة وقع الأمريكى أسير جمال روح مريم، ولم يمض وقت طويل قبل أن تشعر مريم بأنه يشغل قلبها، توافقت مشاعرها معه واعترف كل منهما للآخر، هذه المرة دامت الابتسامة على وجه مريم، فهو وإن كان اسماً من دينها فإن عائلتها لن تجد سوى بعدها عنهم سبباً فى طول التفكير، وبارك بابا الكنيسة الزواج طالما مارك مستعد أن يغير ملته إلى القبطية، ومارك لا يمانع إذا كان هذا ما سوف يرضى أهل حبيبة القلب، فهو أولاً وأخيراً لا ملة له.
فآخر مسيحى حقيقى فى عائلته كان جده الذى هاجر من أيرلندا إلى أرض الفرص الذهبية.
وتزوجا وعادا بعد حين إلى أمريكا، وزادت الأسرة بهجة بوصول الولدين جرجس ويوسف أو فى قول آخر جورج وجوزيف.
مازالت مريم على إيمانها كما هى، مواظبة على الذهاب إلى كنيسة أوهايو القبطية.
شب الولدان وترعرعا، ونظرت مريم إلى حياتها كشريط فيلم وثائقى، مارك لم يذهب أبداً إلى كنيسة، ولكنه دائماً يقدرها ويحترم إيمانها وتدينها، الأولاد على ملة أبيهم، إنسانياً يتعاملان بكل ما أنزل الله فى كتبه، ولكن لا يذهبون إلى كنيسة ولا يفكرون  فى عبادته كما تربت هى على العبادة.
دائماً ما تسترجع فى مخيلتها صورة مروان وهو يعترف بحبها، وفى كل مرة تبتسم ابتسامة البنت حين ترى حبيبها.


"لا يوجد إلا دين واحد، وإن كان هناك مئات المذاهب"


                                      جورج برنارد شو



No comments:

Post a Comment